نُعاقٌ في جَنَازَةِ السَّمَاءِ

──── ─ ─ ─── ─┄

كَمْ مَرَّتْ هَذِهِ المَشَاهِدُ كَحَلْمٍ مُعَادٍ فِي مَرَاقِدِ اللَّيْلِ،

تَبْكِي الدِّمَاءَ الَّتِي تَسْقِيهَا كَرْهًا

وَكَمْ طَارَ الغُرَابُ

وَكَمْ نَعَّتْ البُومَةُ !

إذِ انتَصَبَتِ الأرضُ مَذْبَحًا، وغَفَا الضَّوْءُ على أكتافِ الجُثَثِ،

نَشَبَ جِدالٌ في بَرَاثِنِ الرِّيحِ، تَحتَ شُهُبِ السَّمَاءِ المُحْتَرِقَةِ

سَحابَةٌ بَيْضاءُ كَتُرْبَةٍ طُهِّرَتْ بِدَمِ القَتْلَى، تُحَلِّقُ فِي الأعالي،

وَجِناحٌ أَسْوَدُ يَخْفِقُ، كَمَا يَخْفِقُ اللَّيْلُ إِذَا طَوَى الوُجُوهَ ..

قال الغُرابُ، والنَّعيقُ يَكْسُو نَبْرَتَه:

"أَنا كَفُّ الحَقِّ إِذَا مَدَّهُ المَوْتُ،"

"أَجْمَعُ اللَّحْمَ وَأُوَارِيهِ، أُوَارِي الشَّهِيدَ كَمَا تُوَارَى الأَسْرَارُ فِي القُبُور!"

"أَيُّ قَدَرٍ هذا، يَا بُومَةَ البَيَاضِ،

تَشْهَدِينَ المَذْبَحَ وَتَطْلُبِينَ لِلحُطَامِ سُمُوًّا؟" ..

فَرَدَّتِ البُومَةُ، بِصَوتٍ أَشْبَهَ بِالرِّثَاءِ:

"وَيْحَكَ، يَا سَاكِنَ الفَنَاءِ! تَظُنُّ أَنَّ التُّرابَ يُطَهِّرُ مَا دَنَّسَتْهُ الحُرُوبُ؟"

"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الشَّهِيدَ إِذَا وَقَعَ، شَقَّتِ السَّمَاءُ أَكُفًّا تُلَقِّفُهُ؟"

"لا تُوَارِيهِ فِي جُحُورِ النِّسْيَانِ، دَعْهُ يَمْكُثُ هُنَا،

فَكُلُّ قَتِيلٍ خَلَّفَ بَيْنَ الضُّلُوعِ وَطَنًا ! " ..

وَفِي ظِلِّ صِرَاعِهِمَا، كَانَ السَّوَادُ وَالبَيَاضُ يَرْسِمَانِ عَلَى الأُفُقِ قِصَّةً أَزَلِيَّةً، مَا بَيْنَ وُحُوشِ المَعَارِكِ وَمَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ.

الغُرَابُ، ذَاكَ الوَجْهُ المُكْفَهِرُّ، كَانَ أَشْبَهَ بِعَصْرٍ مُعْتِمٍ يَلْتَهِمُ الضَّوْءَ، كَمَا تَلْتَهِمُ الحُرُوبُ أَحْلَامَ الجِيلِ.

وَالبُومَةُ، تِلْكَ النَّاصِعَةُ كَالكَفَنِ، كَانَتْ وَحْيًا لِلرُّوحِ، تُصْغِي لِصَرَاخِ الدِّمَاءِ، تُؤْمِنُ أَنَّ الأَجْسَادَ وَإِنْ تَحَلَّلَتْ، تَتَرَاكَمُ فِي ذَاكِرَةِ الأُفُقِ كَمَا تَتَرَاكَمُ النُّجُومُ فِي جَبِينِ اللَّيْلِ.

وتَناوَبَتِ الأَشْجَارُ فِي المَسْكَنِ، تُلْقِي ظِلَّهَا عَلَى جُثَثِ العَابِرِينَ، كَأنَّهَا تَحْمِلُ عَلَى أَغْصَانِهَا وَصَايَا الأَمْسِ، فَلا يُرَدُّ رَمَادُ المَاضِي، وَلا تُنْبِتُ الجُذُوعُ إِلا خَرَابًا.

لَكِنَّ الرِّيحَ، وَحْدَهَا، تَشْهَدُ عَظَمَةَ السُّقُوطِ، تُهَرْوِلُ بَيْنَ الأَحْدَاثِ كَمَنْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ، ثُمَّ تُنْشِدُ بَينَ الكَوَاكِبِ مَا رَوَتْهُ المَذَابِحُ ! ..

الغُرابُ يَضْرِبُ جَناحَيْهِ، كَمَنْ يُقَاتِلُ الرِّيحَ:

"أَيُّ وَهْمٍ تَسُوقِينَ، يَا نَادِبَةَ السَّمَاءِ؟"

"أَتُرِيدِينَ لِلرِّيحِ أَنْ تَذْرُوَ أَجْسَادَ الصَّحْوَةِ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا؟"

"أُوَارِيهِمْ، كَيْ تَحْتَفِظَ الأَرْضُ بِهِمْ،

كَيْ لَا تَتَفَلَّتَ الذِّكْرَى كَرِمَالٍ تَذْهَبُ فِي العَدَم ! "

في وقفةٍ خاشعةٍ بينَ صريرِ الغُرابِ وهمسِ البومةِ، يُولَدُ العدلُ من جُرحِ التضحية، كقُدّيسٍ خرجَ من رمادِ المذبحةِ، يحملُ في كفِّه ميزانًا، وفي الأخرى قلبًا نابضًا بوجعِ الأبرار، لا يُنصفُ الدّمَ بالسيف، بل بالذكرى، لا يُقيمُ القصاصَ على فُتاتِ الأجساد، بل يُقيمُهُ على صدى صراخِها في ضميرِ الأفق، يرفعُ الوجعَ صلاةً، ويكتُبُ على جبينِ الرماد:

“العدلُ لا ينسى مَن سَقطَ ليقومَ غيرُه.”

الطَّبِيعَةُ شَاهِدٌ مُحَايِدٌ

الأَشْجَارُ تَنْحَنِي كَالضُّرُوعِ فِي سُجُودِهَا،

كَأَنَّهَا تَشْهَدُ الوَدَاعَ الأَخِيرَ،وَالرِّيحُ تَنْشُرُ بَيْنَ الأَغْصَانِ رِثَاءَ الرُّوحِ، كَبَاكِيَةٍ عَلَى مَرَاثِي النِّسْيَانِ،حَتَّى الأَرْضُ تَئِنُّ، تَشْتَكِي الثِّقَلَ كَظَهْرِ شَيْخٍ حَمَلَ تَارِيخًا مِنَ الأَوْجَاعِ، تَبْكِي الدِّمَاءَ الَّتِي تَسْقِيهَا كَرْهًا كَنَهْرٍ أُجْبِرَ عَلَى سَيْلِ الدِّمَاءِ

الرِّيحُ تَهُبُّ مرة أخرى، كَأَنَّهَا تَحْمِلُ أَنِينًا،

وَالسَّحَابُ يَتَكَوَّرُ، يَطْوِي البَصَرَ بِمَآسِيهِ

تَتَشَاجَرُ الطُّيُورُ فِي العَتْمَةِ، وَالسَّمَاءُ تَنْفَجِرُ،

تَصِيحُ: "صَهْ ! لَا البُومَةُ وَلَا الغُرَابُ يَحْكُمُ حُكْمَ الدِّمَاءِ،

فَمَطَرُ الفَصلِ أَصْدَقُ نَعِيٍّ !" ..

يَنْهَمِرُ المَطَرُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَاءً، وَلَا طُهْرًا، وَلَا غُسْلًا

بَلْ دَمٌ، دَمٌ نَازِفٌ كَالطِّينِ، يَنْزَلُ فَيُغْرِقُ الأَرْضَ،

يَخْضِبُ السَّمَاءَ وَالبُومَةَ وَالغُرَابَ،

حَتَّى لَا يُمْكِنَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ لَونٍ وَآخَرَ،

حَتَّى يَصِيرَ المَكَانُ أَحْمَرَ، كَأَنَّ الدَّمَ هُوَ الوَطَنُ

وَهُوَ النَّعْيُ وَهُوَ الأَبَدُ !

#AOK

#Wr_Suzaku

#suzaku_ko